الميلاد في الزهراء
في القرن العاشر الميلادي، وُلد في مدينة الزهراء قرب قرطبة طفلٌ سيُغيّر تاريخ الطب: أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (936م تقريبًا). في مدينةٍ يختلط فيها العلم بالشعر، والفقه بالفلسفة، والقصور بالمكتبات، نشأ الصبي وهو يرى الأطباء يصفون الأدوية، ويتحدّثون عن أمراض الجسد. لم يكن يكتفي بالاستماع، بل كان يتخيّل أن يدخل إلى الجسد نفسه، يبحث في أعماقه عن أسراره.

من تلميذ إلى طبيب القصر
درس الطب في قرطبة، حتى بلغ مكانة جعلته طبيبًا في بلاط الخليفة الأموي الحكم المستنصر. ومع ذلك لم يحصر نفسه في القصر، بل عُرف أيضًا طبيبًا للناس في الأسواق والبيوت. كان قريبًا من الفقراء، يستمع إليهم، ويُعالجهم بما يعرف. ومن هنا وُلدت شخصيته: العالم الرحيم.
الجراح الذي لم يَخَف من الدم
في زمنٍ كان فيه الأطباء يتجنّبون الجراحة ويعتبرونها آخر الحلول، كان الزهراوي يدخل غرفة العمليات واثقًا. لم يتردد في استخدام الكيّ بالنار لإيقاف النزيف أو علاج الأورام، لكنّه لم يقف عند الكيّ فقط. كان يبتكر أدوات جديدة ويجرب تقنيات غير مسبوقة.
تخيل مريضًا يدخل عليه وقد علِق جسم غريب في حلقه، فيُخرج الزهراوي من حقيبته أداةً طويلة مصممة خصيصًا لالتقاط هذا الجسم. أو طفلاً لا يمرّ البول من مجراه، فيستخدم الطبيب آلة دقيقة ابتكرها بنفسه لفتح الطريق. لقد حوّل المستحيل إلى ممكن.
التصريف… موسوعة الطب والجراحة
أعظم أعماله كان كتاب “التصريف لمن عجز عن التأليف”. ثلاثون مجلدًا، جمع فيها الطب كله. لكن الجزء الأخير، المخصص للجراحة، كان كنزه الأكبر. فيه وصف أكثر من 200 أداة جراحية ورسم صورها بدقة:
أدوات لفحص الإحليل الداخلي.
آلات لإخراج أو إدخال الأجسام الغريبة في الحلق أو الأذن.
ملاعق خاصة لخفض اللسان وفحص الفم.
مقصلة للوزتين، وكلاليب لخلع الأسنان، ومناشير لعظام الفكين.
خطافات مزدوجة، ووسائل جديدة لوقف النزيف بربط الشرايين الكبرى—قبل الجراح الفرنسي باري بستة قرون.
لقد جعل من الجراحة علمًا قائمًا بذاته، لا مجرد مهارة بدائية.
سبق الطبيعة بخيوط وأدوات
كان الزهراوي أول من صنع خيوطًا جراحية تُستعمل في خياطة الأمعاء. صنعها من أمعاء الماشية والقطط، وهي نفس الفكرة التي طوّرها الطب الحديث بعد قرون. كما مارس التخييط الداخلي باستخدام إبرتين بخيط واحد مثبت فيهما—تقنية متقدمة جدًا في زمانه.
وهو أول من وصف القسطرة وابتكر أدواتها، وأجرى شق القصبة الهوائية لإنقاذ مرضى كانوا يُتركون للموت. بل نجح في تفريغ الدم من الصدر بعد الإصابات والجروح الغائرة.
طب الأسنان والفكّين
في كتابه خصص فصولاً لطب الأسنان:
طرق خلع الأسنان بلطف دون كسر الفك.
معالجة الأضراس النابتة في غير مكانها.
تقويم الأسنان وتنظيفها.
علاج كسور الفك، واستخراج جذور الأضراس العميقة.
لقد سبق عصره في جراحة الفم والوجه، حتى ليبدو اليوم كطبيب أسنان حديث يعيش في الأندلس القديمة.
التوليد والنساء
لم يترك الزهراوي النساء دون عناية. كتب عن الوضعيات المختلفة للولادة، مثل وضعية فالشر الشهيرة، وشرح كيفية إخراج المشيمة الملتصقة، وعلاج الحمل خارج الرحم، والإجهاض. اخترع آلات خاصة لتوسيع عنق الرحم، ولإخراج الجنين الميت إذا تعسرت الولادة. كما صمّم أدوات لاستخراج حصاة المثانة عن طريق المهبل.
كان أيضًا أول من أشار إلى أهمية التمريض النسائي، وأدخل القطن لإيقاف النزيف—ابتكار بسيط لكنه ما زال حيًا حتى اليوم.
أدوات دوائية وعلاجات مبتكرة
لم يقتصر على الجراحة وحدها:
استعمل الفحم لتنقية شراب العسل.
ابتكر قوالب لصناعة الأقراص الدوائية—النواة الأولى للأقراص الحديثة.
صنع أول أشكال اللاصق الطبي، وما زال مبدأه يُستخدم في المستشفيات اليوم.
الإرث في أوروبا
بعد سقوط الأندلس، تُرجم كتابه إلى اللاتينية. صار يُعرف في أوروبا باسم Abulcasis، وأصبح المرجع الأساسي في الجامعات لخمسمئة عام. كان الأطباء يتعلّمون من رسوماته، ويقلّدون أدواته، وكأن الزهراوي ما زال يقف بينهم يدرّس.
صورة من غرفة عملياته
تخيّل غرفة في قرطبة مضاءة بمصابيح زيتية. على الطاولة مباضع، خطافات، قسطرة معدنية دقيقة، خيوط مصنوعة من أمعاء حيوان. يدخل مريض ينزف من شريان، فيضع الزهراوي أصابعه بثبات، يربط الشريان بحبلٍ صغير، ثم يخيط الجرح بخيط حيوي.
المريض يئنّ، والزمن يتوقف، لكن الطبيب يهمس:
“إنّ لحظة الألم تفتح باب الحياة.”
النهاية… مشرط الأندلس في يد العالم
توفي الزهراوي عام 1013م، لكن إرثه ظلّ حيًا. من مشرطٍ بسيط وكتابٍ ضخم، أسّس علم الجراحة الحديثة.
كل جراحٍ يمسك أداةً اليوم، وكل طبيبٍ يربط شريانًا أو يخيط جرحًا، إنما يكرّر ما بدأه رجل من مدينة الزهراء قبل ألف عام.

