سعيد بن عامر الجُمَحِي

🕒 25 دقيقة
سعيد بن عامر رجل اشترى الآخرة بالدنيا
وآثر الله ورسوله على سواهما »
[المؤرخون]

كان الفتى سعيد بن عامر الجمحي ، واحداً من الآلاف المؤلفة ، الذين
خرجوا إِلَى مِنْطَقَة التنعيم في ظاهر مكة بدعوة من زعماء قريش ، ليشهدوا
مَصْرَعَ خُبَيْبِ بنِ عَدِيٌّ أحد أصحاب محمد بعد أن ظفروا به غدراً .
وقد مكنه شبابه الموفور وفُتُوتُه المُتَدَفَقَةُ مِنْ أَنْ يزاحِمَ الناس بالمناكب ،
حتى حاذى شيوخ قريش من أمثال أبي سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية ،
وغيرهما مِمَّن يَتَصَدَّرُونَ المَوْكِبَ .
وقد أتاح له ذلك أن يرى أسير قريش مكبلا بقيوده ، وأكف النساء
والصبيان والشبان تدفعه إلى ساحة الموت دفعاً ، لينتقموا من محمد في
شخصه ، وليثأروا لِقَتْلاهم في بَدْرٍ بِقَتْلِهِ .
ولما وصلت هذه الجموع الحاشدة بأسيرها إلى المكان المعد لقتله ،
وقف الفتى سعيد بن عامر الجمحي بقامته المَمْدُودَةِ يُطِلُّ على حبيبٍ ، وهو يُقَدِّمُ
إلى خشبة الصلب ، وسمع صوته الثابت الهادىء من خلال صياح النسوة
والصبيان وهو يقول :
إن شئتم أن تتركوني أَرْكَعُ رَكْعَتَين قبلَ مَصْرَعي فافعلوا

سعيد بن عامر الجُمَحِي

ثُمَّ نظر إليه ، وهو يَسْتَقْبِلُ الكَعْبَةَ ، ويصَلِّي رَكْعتين ، يا لَحُسْنِهما ويا
لتمامهما
….
ثم رآه يقبل على زعماء القوم ويقول :
والله لولا أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي أَطَلْتُ الصَّلَاةَ جَزَعاً من الموت ؛ لاسْتَكْثَرْتُ من
الصلاة ….
ثم شَهِدَ قَوْمَهُ بعيني رأسه وهم يمثلون بحبيب حياً ، فيقطعون من جَسَدِه
القِطْعَةَ تِلْوَ القطعة وهم يقولون له :
أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت ناج ؟ .
فيقول – والدماء تنزف منه – :
والله ما أحب أن أكون آمناً وادعاً في أَهْلي وَوَلَدِي ، وأن محمداً يوخَرُ بشوكة

فيلوح الناس بأيديهم في الفضاء، وَيَتَعَالَى صِياحُهم : أن اقتلوه …
اقتلوه . . .
ثم أَبْصَر سعيد بن عامر حبيباً يرفَعُ بصَرَه إلى السماء من فوق خشبة حشبة الصَّلْبِ

ويقول : اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً .
ثم لفظ أنفاسه الأخيرة ، وبه ما لَمْ يَسْتَطِعْ إِحْصَاءَهُ مِنْ ضَرَبَاتِ
السيوف وطعنات الرماح .
***
عادت قريش إلى مكة ، ونَسِيَتْ في رَحْمَةِ الأَحْداثِ الجِسَامِ حُبَيْباً
ومصرعه

لكِنَّ الفَتَى اليافع سعيد بن عامر الجُمَحِي لم يَغِبْ خُبَيْبٌ عن خاطره لحظة .

كان يراه في حلمه إذا نام ، ويراه بخياله وهو مُسْتَيْقِظُ ، وَيَمْثُل أمامه وهو
يصلي ركعتيه الهادئتين المُطْمَئِنَّتين أمامَ خَشَبَةَ الصَّلْبِ ، وَيَسْمَعُ رَنِينَ صَوْتِهِ فِي
أذنيه وهو يدعو على قريش ، فيخشى أن تصعقه صاعِقَةٌ أو تَخِرَّ عليه صَخْرَةً من
السماء .
ثم إِنَّ خُبَيْبًا عَلَّمَ سَعِيداً ما لم يَكُنْ يَعْلَمُ مِن قَبْلُ
….
علمه أن الحياة الحقة عقيدة وجهاد في سبيل العقيدة حتى الموت .
وعلمه أيضاً أن الإيمان الراسخ يَفْعَلُ الأعاجيب ، وَيَصْنَعُ المُعْجِزاتِ .
وعلمه أمراً آخر ، هو أن الرجل الذي يحبه أصْحَابه كل هذا الحبُّ إنَّما هو
نبي مؤيد من السماء .
عند ذلك شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ سعيد بن عامر إلى الإسلام ، فقام في ملائ
من الناس ، وأعلن براءته من آثام قريش وأَوْزَارِها ، وَخَلْعَهُ لأَصْنَامِها وأَوْثَانِها
ودخوله في دين الله .
***
هاجر سعيد بن عامر إلى المدينة ، ولزم رسول الله صلوات الله عليه ،
وشهد معه خَيْبَرَ وما بَعْدَها من الغزوات .
ولما انتقل النبي الكريم إلى جوار ربه وهو راض عنه ، ظلَّ مِنْ بَعْدِهِ سَيْفاً
مسلولاً في أيدي خليفتيه أبي بكر وعمر ، عاش مثلاً فريداً فذاً للمؤمن الذي
اشترى الآخرة بالدنيا ، وآثَرَ مرضاة الله وثوابه على سَائِرِ رَغَباتِ النفس وشَهَوَاتِ
الجسد .

وكان خليفتا رسول الله ﷺ يعرفان لسعيد بن عامر صدقه وتقواه ،
وَيَسْتَمِعانِ إِلَى نُصْحِه
دخل على عمر بن الخطاب في أول خلافتِه فقال : يا عمر ، أوصيك أن
تَخْشَى اللَّه في الناس ، ولا تخش الناس في الله ، وألا يخالف قولك فعلك ،
فإن خير القول ما صَدَّقه الفِعْلُ

يا عمر : أَقِمْ وَجْهَكَ لمن ولاك الله أمره من بعيد المسلمين وقريبهم ،
وأحِبُّ لهم ما تُحِبُّ لِنَفْسِك وأهل بيتك ، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل
بيتك ، وخض الغمرات إلى الحقِّ ولا تَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِم .
فقال عمر : ومن يستطيع ذلك يا سعيد ؟!
فقال : يستطيعه رجل مثلك مِمَّن ولاهُمُ اللَّهُ أَمَرَ أُمَّةِ محمد ، وليس بينه
وبَيْنِ اللَّهِ أَحَدٌ .

***
عند ذلك دعا عمر بن الخطاب سعيداً إلى مُؤازرته وقال :
يا سعيد إِنَّا مُوَلُّوكَ على أهل « حِمْصَ » .
فقال : يا عمرُ نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَلَّا تَفْتِني (٢) ، فَغَضِبَ عمر وقال :
وَيْحَكُمْ وَضَعْتُمْ هذا الأمر (۳) في عُنُقِي ثم تَخَلَّيْتُمْ عَنِّي !!. واللَّهِ لا أدَعُك
ثم ولاه على « حمص ، وقال : ألا نفرض لك رِزْقاً ؟
قال : وما أفعل به يا أمير المؤمنين ؟! فإن عطائي مِنْ بيت المال يزيد عن
حاجتي ، ثم مضى إلى ( حمص ) .

وما هو إلا قليل حتَّى وَقَدَ على أمير المؤمنين بعضُ مَنْ يَثقُ بهم من أهل
حمص ، ، فقال لهم :
اكتبوا لي أسماء فُقَرَائِكُم حَتَّى أَسدَّ حاجتهم .
فرفعوا كتاباً فإذا فيه : فلان وفلان وسعيد بن عامر .
فقال : ومَنْ سعيد بن عامر ؟!
فقالوا : أميرنا .
قال : أميركم فقير ؟!
قالوا : نعم ، ووالله إنَّه لَتَمُرُّ عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار.
فبكى عمر حتى بللت دموعُه لِحْيَتَه ، ثم عَمَدَ إِلَى أَلْفِ دينارٍ فَجَعَلَها في
صرة وقال :
اقرؤوا عليه السلام مِنِّي ، وقولوا له : بعث إليك أمير المؤمنين بهذا
المال لتستعين به على قضاء حاجاتك
***
جاء الوفد السعيد بالصرةِ فَنَظَرَ إليها فإذا هي دنانير ، فَجَعَلَ يُبْعِدُها عنه وهو يقول :

إنا لله وإنا إليه راجعون – كأنما نَزَلَتْ به نازلة أو حلَّ بساحته خَطْبٌ – فهبت
زوجته مذعورة وقالت :
ما شأنك يا سعيد ؟! أمات أمير المؤمنين ؟!
قال : بَلْ أَعْظَمُ من ذلك ،
قالت : أصيب المسلمون في وقعة ؟!
قال : بل أعظم من ذلك .
قالت : وما أعظم من ذلك ؟!
قال : دَخَلَتْ عليَّ الدنيا لِتُفْسِدَ آخرتي ، وحلت الفتنة في بيتي .
قالت : تخلص منها – وهي لا تدري من أمر الدنانير شيئاً –
قال : أوتعينينني على ذلك ؟
قالت : نعم .
فأخذ الدنانير فَجَعَلها في صُرَرٍ ثم وزعها على فقراء المسلمين.
***
لم يمض على ذلك طويل وقتٍ حَتَّى أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ديار الشام يتفقد أحوالها فلما نزل بحمص – وكانت تُدْعَى ( الكُوَيْفَة ، وهو تصغير
للكوفة وتشبيه لحمص بها لكثرة شكوى أهلها من عمالهم وولاتهم كما كان يَفْعَلُ
أهل الكوفة – فلما نزل بها لقيه أهلها للسلام عليه فقال :
كيف وجدتم أميركم ؟
فشكوه إليه وذكروا أربعاً من أفعاله ، كل واحد منها أعظم من الآخر .

قال عمر : فجمعت بينه وبينهم ، ودعَوْتُ اللَّهَ أَلا يُخيب ظني فيه ؛ فقد
كنت عظيم الثقة به .
فلما أصبحوا عندي هم وأميرهم ، قلت :
ما تشكون من أميركم ؟
قالوا : لا يَخْرُجُ إلينا حتى يتعالى النهار .
فقلت : وما تقول في ذلك يا سعيد ؟ فسكت قليلاً ، ثم قال :
والله إني كنتُ أكْرَهُ أن أقول ذلك ، أما وإنَّه لا بُدَّ منه ، فإنه ليس لأهلي
خادم ، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم ، ثم أتريث قليلا حتى
يختمر ، ثم أخبزه لهم ، ثم أتوضأ وأخرج للناس.
قال عمر : فقلت لهم : وما تشكون منه أيضاً ؟
قالوا : إنه لا يجيب أحداً بليل .
قلت : وما تقول في ذلك يا سعيد ؟
قال : إني واللهِ كُنتُ أَكْرَه أَنْ أُعْلِنَ هذا أيضاً. فأنا قد جعلت النهار لَهُمْ
والليل لله عز وجل .
قلت : وما تشكون منه أيضاً ؟
قالوا : إنه لا يخرج إلينا يوماً في الشهر .
قلت : وما هذا يا سعيد ؟
قال : ليس لي خادم يا أمير المؤمنين ، وليس عندي ثياب غير التي علي ،
فأنا أغْسِلُها في الشَّهْرِ مَرَّةً وأنتَظِرُها حتى تجف ، ثم أخرج إليهم في آخر
النهار.
ثم قلت : وما تشكون منه أيضاً ؟
قالوا : تُصيبه من حين إلى آخرَ غَشْيَةٌ فيغيبُ عَمَّنْ فِي مَجْلِسِه .
فقلت : وما هذا يا سعيد ؟!
فقال : شهدت مصرع خُبَيْبِ بنِ عَدِيٌّ وأنا مُشْرِكٌ ، ورأيتُ قريشاً تُقَطِّعُ
جَسَدَهُ وهي تقول :

أتُحِبُّ أن يكون محمد مكانك ؟
فيقول : والله ما أحب أن أكون آمناً في أهلي وولدي ، وأن محمداً تشوكه شَوْكَةٌ
.. وإني والله ما ذكرت ذلك اليوم وكيف أَنِّي تَرَكتُ نُصْرَتَهُ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ لي …. وأصابتني تلك الغَشْيَةُ .
عند ذلك قال عمر :
الحمد لله الذي لم يخيب ظني به .

ثم بعث له بألف دينار ليستعين بها على حاجته . فلما رأتها زوجته
قالت له :
الحمد لله الذي أغنانا عن خِدْمَتِك ، اشْتر لنا مؤنَةً واستأجر لنا خادماً .
فقال لها : وهل لكِ فيما هو خير من ذلك ؟
قالت : وما ذاك ؟!
قال : ندفعها إلى من يأتينا بها ، ونحن أحوج ما نكون إليها .
قالت : وما ذاك ؟!
قال : نُقْرِضها الله قرضاً حسناً .
قالت : نعم ، وجزيت خيراً .
فما غادر مجلسه الذي هو فيه حتَّى جَعَلَ الدنانير في صُرَرٍ ، وقال لواحد
من أهله :
انطلق بها إلى أرملة فلان ، وإلى أيتام فلان، وإلى مساكين آل
فلان، وإلى مُعوزي آل فلان .
***
رضي اللَّهُ عَنْ سعيد بن عامر الجُمَحِي فقد كان من الذين يُؤثرون على
أنفسهم ولو كانت بـ بهم خصاصة

 

من كتاب صور من حياة الصحابة