ثمامة بن أثال

🕒 24 دقيقة
(يضرب الحصار الاقتصادي على قريش )

في السَّنَةِ السَّادِسَةِ للهِجْرَةِ عَزَمَ الرسول صلوات الله عليه عَلَى أَن يوسع
نطاقَ دَعْوَتِهِ إِلَى اللَّهِ ، فَكَتَبَ ثمانِيَةَ كُتُب إلى ملوك العرب والعجم ، وَبَعَثَ بها
إليهم يدعوهم فيها إلى الإسلام .
وكان في جُمْلَةِ مَنْ كَاتَبَهُم « ثمامَةُ بنُ أَثالِ الحَنَفِيُّ » .
ولا غَرْوَ (لا عجب)، فَتُمَامَهُ قَيْلٌ (ملك ورئيس) مِنْ أقيال العرب في الجاهلية ….
وسيد من سادات بني حنيفة المرموقين … وملك من ملوك اليمامة الذين
لا يُعْصَى لهم أمر .
***
تَلَقَّى ثُمَامَةُ رسالة النبي عليه الصلاة والسلام بالزراية (احتقار) والإعراض .
وأخَذَتْه العِزة بالإثم ؛ فأصم أذنيه عن سماع دَعْوَةِ الحقِّ والخَيْرِ .

ثم إنه ركبه شيطانه فأغراه بقتل رسول الله ﷺ وَوَأدِ دَعوتِه معه ، فدأب
يَتَحَيَّنُ الفُرَصَ للقضاء على النبي حتى أصابَ منه غرة (غفلة) ، وكادَتْ تَتِمُّ الجريمة
الشَّنْعَاءُ لولا أن أحد أعمامه ثناه عَنْ عَزْمِهِ فِي آخر لحظةٍ ، فنجَّى اللَّهُ
نبيه من شره .
لكن ثمامة إذا كان قد كَفَّ عن رسول الله صلوات الله عليه ؛ فإنه لم
يكف عن أصحابهِ ، حَيْثُ جَعَلَ يَتَرَبَّصُ بهم ، حتَّى ظَفِرَ بَعَدَدٍ منهم وقَتَلَهم
شر قتلة ؛ فأَهْدَرَ النبي عليه الصلاة والسَّلامُ دمه ، وأَعْلَنَ ذلك في أَصْحَابه .
***
لم يمض على ذلك طويل وقت حَتَّى عَزمَ تُمَامَةُعَلَى أَداءِ
العُمْرَةِ ، فَانْطَلَقَ من أرض اليمامة مُوَلِّياً وَجْهَهُ شَطْرَ مَكَّةَ ، وهو يُمَنِّي نفسه
بالطواف حولَ الكَعْبَةِ والذَّبْحِ لأَصْنَامِها
***
وبينا كان ثمامة في بعض طريقه قريباً من المدينة نَزَلَتْ به نازلة لم تقع له
في حسبان
ذلك أن سَرِيَّةً من سرايا رسول الله صلوات الله عليه ، كانت تجوس
خلال الديار خوفاً من أن يطرق المدينة طارق ، أو يُرِيدَها مُعْتَدٍ بِشَرٍّ .
فأسرت السرية ثمامة – وهي لا تعرفه – ، وأنت به إلى المدينة ، وشدَّته إلى
سارية من سواري المسجد ، مُنتَظِرَةً أن يَقِفَ النبي الكريم بنفسه على شأن
الأسير ، وأنْ يَأْمُرَ فيه بأمره .
ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد ، وهم بالدخول فيه
رأى ثمامة مربوطاً في السارية ، فقال لأصحابه :

ثمامة بن أثال

( أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُم ؟ )
فقالوا : لا يا رسول الله
فقال : (هذا ثمامة بن أثال الحنفي ، فأحسنوا أساره ) .
ثم رجع عليه الصَّلاة والسَّلامُ إلى أهله وقال : (اجمعوا ما كان عِنْدَكُمْ من
طعام وابعثوا به إلى ثمامة بن أثال … ) .
ثم أَمَرَ بِنَاقَتِهِ أَن تُحْلَبَ له في الغُدُوِّ والرواح ، وأن يُقَدَّمَ إِليه لبنها ….
وقد تم ذلك كله قبل أن يلقاه الرسول صلوات الله عليه أو يُكَلِّمَه .
***
ثم إِنَّ النبيَّ ﷺ أَقْبَلَ على ثمامة يريدُ أنْ يَسْتَدْرِجَه إلى الإسلام وقال :
( ما عِنْدَك يا ثمامة ؟ )
فقال : عندي يا محمد خير … فإن تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذا دَم … وإن
تنعم تنعم على شاكرٍ … وإن كنت تريد المالَ ؛ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ
فتركه رسولُ اللهِ صلواتُ اللهِ عليه يَوْمَين على حاله ، يُؤْتَى له بالطعام
والشراب ، ويُحْمَلُ إِليه لَبَنُ النَّاقَةِ ثم جاءه ، فقال :
( ما عِنْدَكَ يا ثمامة ؟ ) .
قال : ليس عندي إلا ما قُلتُ لكَ من قَبْلُ ….
فإِن تُنْعِم تتُنْعِم عَلَى شَاكِرٍ ….
وإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَم …..
وإن كنت تريد المالَ فَسَلْ تُعْطَ منه ما شِئْتَ .
فتركه رسول الله ﷺ ، حتى إذا كان اليوم التالي جاءه فقال :
( ما عندك يا ثمامة ؟ ) . فقال : عندي ما قلت لك … إن تنعم
تنعم على شاكر . وإن تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذا دَم . وإن كنت تريد المال أعطيتك منه
ما تشاء .
فالتفت رسولُ اللهِ ﷺ إلى أصحابه وقال : ( أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ … ) .
ففكوا وثاقه وأطلقوه
***
غادر ثمامة مَسْجِد رسول الله ﷺ ، ومضى حتى إذا بلغ نخلاً في حواشي
المدينة – قريباً من البقيع – فيه ماء أناخ راحلته عِنْدَه ، وتطهر من مائه
فأحسن طهوره ، ثم عاد أدراجه إلى المسجد .
فما إن بلغه حتَّى وقف على ملا من المسلمين وقال :
أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
ثم اتجه إلى رسول الله ﷺ وقال :
یا محمد ، والله ما كان على ظهر الأرض وجه أَبغَضُ إِليَّ مِنْ
وجهك … وقَدْ أَصْبَحَ وجهك أحب الوجوه كلها إلي .
إلي .
إلي .
والله ما كان دين أبغض إلي من دينك ؛ فأصبح دينك أحب الدين كله
ووالله ما كان بلد أبغض إليَّ من بَلَدِك ؛ فأصبح بلدك أحب البلاد كلها
علي ؟
ثم أردف قائلاً : لقد كنتُ أَصَبْتُ في أصحابك دما فما الذي توجبه
فقال عليه الصلاة والسلام : ( لا تثريب (لوم) عليك يا ثمامة … فإن الإسلام
يجب ما قبله … ) .
وبشره بالخير الذي كتبه الله له بإسلامه .
فانْبَسَطَتْ أسارير ثمامة وقال :
والله لأصيبنَّ مِنَ المشركين أضعاف ما أَصَبْتُ من أَصْحَابِكَ ، وَلا ضَعَنَّ
نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك ونصرة دينك
أَفْعَلَ ؟
ثم قال : يا رسولَ اللَّهِ إِنَّ خَيْلَك أَخَذَتْني وأنا أريدُ العُمْرَةَ فماذا تَرَى أَنْ
فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : (إِمْض لأدَاءِ عُمْرَتِكَ ولكن على شَرْعَةِ اللَّهِ
ورسوله) ، وعَلَّمَه ما يقومُ بِهِ مِنَ المَنَاسِكَ
***
مضى ثمامة إلى غايته حتَّى إذا بلغ بَطْنَ مَكَّةَ وقَفَ يُجَلْجِلُ بِصَوْتِه العالي
لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ .
لبيك لا شريك لك لبيك

إن الحمد والنعمة لك والملك
لا شريك لك )

فكان أول مسلم على ظَهْرِ الأَرْضِ دَخَلَ مَكَّةَ مُلَبياً .
***
سمعت قريش صوت التلبية فهبَّتْ مُغْضَبَةً مَذْعورةً، واستَلَّتِ السيوف من
أغمادها ، واتَّجَهَتْ نحو الصوت لتبطش بهذا الذي اقتحم عليها عرينها .
ولما أقْبَلَ القومُ على ثمامة رفع صوته بالتلبية ، وهو يَنْظُرُ إليهم بكبرياء ؛
فَهمَّ فتى من فتيان قريش أن يُرْدِيَه بسهم ، فأخذوا على يديه وقالوا :
ويحك أتعلم من هذا ؟!
إنه ثمامة بن أثال ملك اليمامة ….
واللَّهِ إِن أَصَبْتُموه بسوءٍ قَطَعَ قومُه عَنَّا الميرة وأماتونا جوعاً .
ثم أقبل القوم على ثمامة بعد أن أعادوا السيوف إلى أغمادها وقالوا :
ما بك يا ثمامة ؟!!
أصَبَوْت وتركت دينك ودين آبائك ؟!!
فقال : ما صَبَوْتُ ولكِنِّي اتَّبعتُ خير دين … اتبعت دين محمد .
ثم أَرْدَفَ يقول : أقسم برَبِّ هذا البيت ، إِنَّه لا يَصِلُ إليكم بعد عودتي
إلى اليمامة حبَّةٌ من قَمْحِها أو شَيءٌ من خيراتها حتى تتبعوا محمداً عن
آخركم …
***
اعْتَمَر ثمامة بن أثال على مرأى من قريش كما أمره الرسول صلوات الله
عليه أن يعتمر ….
وذبح تقرباً لله لا للأنصابِ والأصنام ، ومضى إلى بلاده فأَمر قومه أن
يحبسوا الميرة عن قريش ؛ فَصدعوا بأمره واستجابوا له ، وحبسوا خيراتهم عن
أهل مكة .
***
أَخَذَ الحصار الذي فَرَضَهُ ثمامة على قريش يَشْتَدُّ شيئاً فشيئاً ، فارتفعت
الأسعار ، وفشا الجوع في الناس واشتد عليهم الكرْبُ ، حتَّى خافوا على
أنفسهم وأبنائهم من أن يهلكوا جوعاً .
عند ذلك كتبوا إلى رسول الله ﷺ يقولون :
إنَّ عَهْدَنَا بِكَ أَنَّكَ تَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحُضُّ على ذلك …
وها أنت قد قَطَعْتَ أَرْحَامَنا ، فَقَتَلْتَ الآباء بالسيف ، وأمَتَّ الأبناء
بالجوع .
وإن ثمامة بن أثال قد قَطَعَ عَنَّا مِيرَتَنَا وأَضَرَّ بنا ، فإن رأيت أن تكتب إليه
أن يبعث إلينا بما نحتاج إليه فافعل .
فكتب عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة بأن يطلق لهم ميرتهم فأطلقها .
***
ظل ثمامة بن أثال – ما امتدت به الحياة – وَفِياً لدينه ، حافظاً لِعَهْدِ نبيه ،
فلما التحق الرسول عليه الصَّلاة والسلام بالرفيق الأعلى ، وطَفِقَ العرب يخرجون
من دين الله زرافات ووحداناً ، وقام مسيلمة الكذاب في بني حنيفة يدعوهم
إلى الإيمان به ، وقف ثمامةً في وَجْهه ، وقال لقومه :
يا بني حنيفة إياكم وهذا الأمر المظلم الذي لا نور فيه ….
إنه واللهِ لَشَفَاءُ كتبه اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ على من أَخَذَ بِه مِنْكُمْ ، وبلاء على من
لَمْ يَأْخُذْ بِه .
ثم قال :
يا بني حنيفة إنه لا يجتمع نبيان في وقت واحد ، وإنَّ محمداً رسول الله لا
نبي بعده ، ولا نبي يُشْرَكُ معه .
ثم قرأ عليهم : حم تنزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ
وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إِلَهَ إِلَّا هو إليه المصير )
ثم قال : أين كلام الله هذا من قول مسيلمة : ( يا ضِفْدَعُ نِقي ما تنقين ،
لا الشَّرَابَ تمنعين ولا الماء تكدرين ) .
ثم انحاز بِمَنْ بَقِيَ على الإسلام من قومه ومضى يقاتل المرتدين جهاداً
في سبيل الله وإعلاء لكلمته في الأرض
جَزَى الله ثمامة بن أثال عن الإسلام والمسلمين خيراً ….
وأَكْرَمَه بالجَنَّةِ التي وُعِدَ المتَّقون .

 

من كتاب صور من حياة الصحابة