يُدفن تحت أسوار القسطنطينية
هذا الصحابي الجليل يُدْعَى خالد بن زيد بن كليب ، من بني النجار .
أما كُنيته فأبو أيوب ، وأما نسبته فإلى الأنصار .
ومن مِنَّا مَعْشَرَ المسلمين لا يعرفُ أبا أيوب الأنصاري ؟!
فقد رَفَعَ اللهُ في الخافِقَين (الشرق والغرب) ذِكْرَه ، وأعْلَى في الأنام (الخلق) قدره حين اختار
بيته من دون بيوت المسلمين جميعاً لينزل فيه النبي الكريم لَمَّا حَلَّ في المدينة
مهاجراً ، وحسبه بذلك فخراً .
ولنزول الرسول صلوات الله عليه في بيت أبي أيوب قِصَّةً يَحْلُو تَرْدادُها
ويلَذُّ تَكْرارُها

ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام حين بَلَغَ المدينة تَلَقَّتْهُ أَفْئِدَةُ أَهْلِها بِأَكْرَم
ما يُتَلَقَّى به وافد
وَتَطَلَّعَتْ إليه عيونهم تبثه شوق الحبيب إلى حبيبه ….
وفتحوا له قلوبهم ليحل منها في السويداء
وأشرعوا (فتحوا) له أبواب بيوتهم لِيَنْزِلَ فيها أعزُّ مَنْزِل .
لكن الرسول صَلَواتُ اللهِ عليه ، قَضَى في قباء من ضواحي المدينة
أياماً أربعة ، بَنَى خلالها مَسْجِده الذي هو أول مَسْجِدٍ أَسِّسَ عَلَى التَّقْوى
ثم خَرَجَ منها راكباً ناقته ، فَوَقَفَ سادات يثرب في طريقها ، كُلُّ يريد أن
يَظْفَرَ بِشَرَفِ نزول رسول الله ﷺ في بيته …..
وكانوا يعترضون الناقة سَيِّداً إثر سيد ، ويقولون :
أقيم عندنا يا رسول الله في العَدَدِ والعُدَدِ والمَنَعَةِ .
فيقول لهم : ( دعوها فإنَّها مأمورة ) .
وتظلُّ الناقَةُ تَمْضِي إلى غايتها تتبعها العيون ، وتحف بها القلوب …..
فإذا جازَتْ منزِلاً حَزِنَ أهله وأصابَهُمُ اليأس، بينما يُشْرِقُ الْأَمَلُ في نفوس
من يليهم
وما زالت الناقة على حالها هذه ، والناسُ يَمضُون فِي إِثْرِها ، وَهُمْ يتلهفون
شوقاً لمعرفة السعيد المحظوظ حتى بلغت ساحةً خلاء أمام بيت أبي أيوب
الأنصاري ، وبَرَكَتْ فيها
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينزل عنها
…
فما لَبِثَتْ أن وَثَبَتْ وانْطَلَقَتْ تَمْشِي ، والرسول مرخ لها زمامها ، ثم ما
لبنت أن عادت أدراجها وَبَرَكَتْ فِي مَبْرَكها الأول .
عند ذلك غَمَرَتِ الفَرْحَةُ فؤاد أبي أيوب الأنصاري ، وبادر إلى رسول الله
صلوات الله عليه يُرَحِّبُ به ، وحَمَلَ مَتاعَه بَيْنَ يديه ، وكأنَّما يَحْمِل كنوز الدنيا
كلها ومضى به إلى بيته .
***
كان منزل أبي أيوب يتألفُ من طَبَقَةٍ فَوْقَها عليَّة ، فَأَخْلَى العُلِّيةَ من مَتاعِه
ومتاع أهله ليُنزل فيها رسول الله …
لكن النبي عليه الصلاة والسلام آثر عليها الطبقة السفلى ، فامتثل أبو أيوب
لأَمْرِه ، وأنزله حيثُ أَحَبَّ
ولما أقْبَلَ الليل ، وأوى الرسول صلوات الله عليه إلى فراشه ، صَعِدَ أبو
أيوب وزوجه إلى العُليَّة وما إن أغلقا عليهما بأبها حتى التفت أبو أيوب إلى زوجته
وقال :
وَيُحَكِ ، ماذا صَنَعْنَا ؟!
أيكون رسول الله ﷺ أسفل ، ونحن أعلى منه ؟!
أنمْشِي فوق رسول الله ﷺ ؟!
أنصير بينِ النَّبِيِّ وَالْوَحْيِ ؟! إِنَّا إِذَنْ لِهَالِكون .
وسقط في أيدي الزوجين وهما لا يَدْرِيان ما يفعلان
ولم تسكُن نفساهما بَعْضَ السكون إلا حين انحازا إلى جانب العلية الذي
لا يقع فوق رسول الله ﷺ ، والتزماه لا يَبْرَحَانَه إِلَّا ماشيين على الأَطْرَافِ
متباعدين عن الوسط .
فلما أصبح أبو أيوب ؛ قال للنبي عليه الصلاة والسلام : والله ما أُغْمِضَ
لنا جفن في هذه الليلة لا أنا ولا أم أيوب .
فقال عليه الصلاة والسلام : ( وَمِمَّ ذاك يا أبا أيوب ؟ ! ) .
قال : ذكرتُ أَنِّي على ظَهْرِ بيتٍ أنت تحته ، وأني إذا تحرَّكتُ تَنَاثَرَ عليك
الغبار فآذاك ، ثم إني غَدَوْتُ بينك وبين الوحي .
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام :
( هون عليك يا أبا أيوب ، إنه أرفق بنا أن نكون في السُّفْلِ ، لِكَثْرَةِ من
يغشانا (۱) من الناس ) .
***
قال أبو أيوب : فامتثلتُ الأمر رسول الله ﷺ إلى أن كانت ليلة باردة
فانكَسَرَتْ لنا جَرَّةً وأريق ماؤها في العُليَّة ، فقمت إلى الماء أنا وأم أيوب ، وليس
لدينا إلا قطيفةٌ كُنَّا نَتَّخِذُها لِحَافاً ، وجَعَلْنَا نُنشِّفُ بها الماءَ خَوْفاً مِنْ أَنْ يَصِلَ إِلَى
رسول الله ﷺ .
فلما كان الصباح غدوتُ على الرسول صلوات الله عليه ، وقلتُ :
بأبي أنت وأمي ، إني أكْرَهُ أن أكون فوقك ، وأن تكون أسفل مني . ثم
قَصَصْتُ عليه خَبَرَ الجرَّةِ ، فَاسْتَجَاب لي ، وصَعِدَ إِلَى العُلِّيةِ ، وَنَزَلْتُ أَنا وأم
أيوب إلى السفل .
***
أقام النبي عليه الصلاة والسلام في بيت أبي أيوب نحواً من سبعة أشهر ،
حتَّى تم بناء مَسْجِدِهِ فِي الْأَرْضِ الخَلاء التي بَرَكَتْ فيها الناقةُ ، فَانْتَقَلَ إلى
الحجرات التي أقيمت حَوْلَ المسجد له ولأزواجِه ، فغدا جاراً لأبي أيوب ، أكْرِمْ
بهما مِنْ مُتجاورين .
أحب أبو أيوب رسول الله صلوات الله عليه حبا ملك عليه قلبه ولبه ،
وأحب الرسول الكريم أبا أيوب حبا أزال الكلفة فيما بينه وبينه ، وجَعَلَه ينظر إلى
بيت أبي أيوب كأنه بيته .
***
حدث ابن عباس قال : خرج أبو بكر رضي الله عنه بالهاجرة إلى
المسجد فرآه عمر رضي الله عنه ، فقال :
يا أبا بكر ما أَخْرَجَكَ هذهِ السَّاعَةَ ؟!
قال : ما أخرجني إلا ما أجد من شدة الجوع .
فقال عمر : وأنا والله ما أخْرَجَني غير ذلك .
فبينما هما كذلك إِذْ خَرَجَ عليهما رسولُ اللهِ ﷺ فقال : (مَا أَخْرَجَكُمَا هذه
الساعة ؟ ! ) .
قالا : واللهِ ما أَخْرَجَنَا إِلَّا مَا نَجِدُه في بطوننا من شدة الجوع ، .
قال عليه السلام : ( وأنا – والذي نَفْسِي بيده – ما أَخْرَجَنِي غيرُ
ذلك ، قوما معي ) .
فانطلقوا فأتوا باب أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، وكان أبو
أيوب يدَّخِرُ الرسول الله كل يوم . طعاماً ، فإذا أبطأ عنه ولم يأْتِ إليه في
حينه أطعمه لأهله .
فلما بلغوا الباب خَرَجَتْ إليهم أم أيوب ، وقالت :
مرحباً بنبي الله وبمن معه ، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام :
( أين أبو أيوب ؟ ) فسمع أبو أيوب صوت النبي – وكان يَعْمَلُ في
نخل قريب له ـ فأَقْبَلَ يُسْرِعُ ، وهو يقول :
مرحباً برسول الله وبمن معه ، ثم أتبع قائلاً : يا نَبِيَّ الله ليس هذا بالوقت
الذي كنت تجيء فيه ، فقال عليه الصلاة والسلام : صَدَقْتَ ، ثم انطلق أبو
أيوب إلى نخيله فقطع منه عِذْقاً فيه تمر ورُطَب وبسر .
فقال عليه الصلاة والسلام : (ما أردت أن تقطع هذا ، ألا جنيت لنا من
تمره ؟ ) .
قال : يا رسول الله أحببت أن تأكل من تمره ورطبه وبُسْرِه ، وَلأذَبَحَنَّ لك
أيضاً
قال : ( إِنْ ذَبَحْتَ فَلا تَذْبَحَنَّ ذاتَ لَبَنٍ ) .
فَأَخَذَ أبو أيوب جدياً فَذَبَحَه ، ثم قال لامرأته : اعجني واخبزي لنا ، وأنتِ
أعْلَمُ بالخبز، ثم أخذ نِصْفَ الجَدي فطبخه ، وَعَمَدَ إِلَى نِصْفِهِ الثاني فَشَوَاه ،
فلمَّا نَضِجَ الطَّعَامُ وَوُضِعَ بين يدي النبي وصاحبيه ، أَخَذَ الرسول قطعة من
الجدي وَوَضَعَها في رغيف ، وقال :
يا أبا أيوب بادر (۲) بهذه القطعة إلى فاطمة ، فإنها لم تُصِب مثل
هذا منذ أيام )
فلما أكلوا وشبعوا قال النبي ﷺ :
( خُبز ، ولحم ، وتمر ، وبُسْرٌ ، ورُطَب !!! ) .
وَدَمَعَتْ عيناه ثم قال : (والذي نفسي بيده إن هذا هو النعيم الذي تسألون
عنه يوم القيامة ، فإذا أَصَبْتُمْ مثل هذا فَضَرَبْتُم بأيديكم فيه فقولوا :
بسم الله ، فإذا شبعتم فقولوا : الحمد لله الذي هو أشبعنا وأنعم
علينا فأفضل ) .
ثم نهض الرسول صلوات الله عليه ، وقال لأبي أيوب : ( إِئتِنَا غداً ) .
وكان عليه الصلاة والسلام لا يصنع له أحد معروفاً إلا أحب أن يُجازيه
عليه ؛ لكن أبا أيوب لم يسمع ذلك .
فقال له عمر رضوان الله عليه : إن النبي ﷺ يأمرك أن تأتيه غداً يا أبا
أيوب .
فقال أبو أيوب : سمعاً وطاعة لرسول الله .
فلما كان الغد ذهب أبو أيوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأعطاه
وليدة (خادمة) كانت تخدمه ، وقال له :
(إِسْتَوصَ بها خيراً – يا أبا أيوب – فإنا لم نر منها إلا خيراً ما دامت عندنا) .
***
عاد أبو أيوب إلى بيته ومعه الوليدة ؛ فلما رأتها أم أيوب قالت :
لمن هذه يا أبا أيوب ؟!
قال : لنا … منحنا إياها رسول الله ﷺ .
فقالت : أعظم به من مانح وأكرم بها من منحة .
فقال : وقد أوصانا بها خيراً .
فقالت : وكيف نصنع بها حتى ننفذ وصية رسول الله ﷺ ؟
فقال : والله لا أجد لوصية رسول الله بها خيراً من أن أعتقها .
فقالت : هديت إلى الصواب ، فَأَنْتَ مُوَفِّقٌ …. ثم أَعْتَقَها .
***
هذه بعض صور حياة أبي أيوب الأنصاري في سلمه فلو أتيح لَكَ أَنْ تَقِفَ
على بعض صور حياته في حربه لرأيت عجباً .
فقد عاش أبو أيوب رَضِيَ الله عنه طول حياته غازياً حتَّى قيل : إنه لم
يتخلف عن غَزْوَةٍ غزاها المسلمون مُنْذُ عَهْدِ الرسول إلى زمن معاوية إلا إذا كان
مُنْشَغِلاً عنها بِأُخْرَى
وكانت آخِرُ غزواته حينَ جَهَزَ مُعَاوِيَةُ جيشاً بِقِيَادَةِ ابنه يزيد ، لِفَتح
القسطنطينية وكان أبو أيوب انذاك شَيْخاً طاعناً في السن يحبو نحو الثمانين من
عمره فلم يَمْنَعه ذلك من أنْ يَنضوي تَحْتَ لَواءِ يَزِيدَ ، وَأَنْ يَمْخُر عُبَابَ
البحر غازياً في سبيل الله .
لكنه لم يمض غير قليل على مُنازَلَةِ العَدُوِّ حَتَّى مَرِض أبو أيوب مَرَضاً
أَقْعَده عن مُوَاصَلَةِ القِتال ، فجاء يزيد ليعوده وسأله :
ألك من حاجة يا أبا أيوب ؟
فقال : إقرأ عَنِّي السلام على جنود المسلمين ، وقل لهم : يوصيكم أبو
أيوب أن تُوغلوا في أَرْضِ العَدُو إِلى أَبْعَدِ غاية ، وأن تَحْمِلُوهُ مَعَكُم ، وأن تدفنوه
تَحْتَ أَقْدَامِكُم عِنْدَ أسوار القسطنطينية ، ولفظ أنفاسه الطاهرة .
استجاب جند المسلمين لرغبة صاحب رسول الله ﷺ ، وكروا على جُنْدِ
العدو الكرة بَعْدَ الكرة حتى بلغوا أسوار القسطنطينية وهم يحملون أبا أيوب
معهم .
وهناك حفروا له قبراً وواروه فيه .
***
رَحِمَ اللهُ أبا أيوب الأنصاري ، فقد أبى إلا أن يموت على ظهور الجياد
الصَّافِنَاتِ غازياً في سبيل الله .. وسنه تقارب الثمانين
من كتاب صور من حياة الصحابة

