« لا تُوَلُّوا البراء جيشاً من جيوش المسلمين
مَخَافَةَ أَن يُهْلِكَ جُنْدَهُ بِإِقْدَامِهِ »
[ عمر بن الخطاب]
كان أَشْعَثَ أَغْبَرَ ضئيل الجِسْمِ مَعْروق العظم تَقْتَحِمُه عين رائيه
ثم تَزْوَرُ عنه ازوراراً .
ولكنه مع ذلك ، قَتَلَ مِائَةً من المشركين مُبَارَزَةً وَحْدَه ، عدا عن الذين
قتلهم في غمار المعارك مع المحاربين.
إنَّه الكَمِيُّ الباسل المقدام الذي كَتَبَ الفاروق بِشَأْنِهِ إِلى عُماله في
الآفاق . ألا يُوَلُّوه على جيش من جيوش المسلمين ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يُهلكهم بإقدامه .
إنه البراء بن مالك الأنصاري ، أخو أنس بن مالك خادم رسول
الله ﷺ.
ولو رُحْتُ اسْتَقْصِي لَكَ أخبار بطولات البراء بن مالك ، لطال الكلام
وضاق المقام ؛ لذا رأيتُ أنْ أعرضَ لَكَ قِصَّةً واحِدَةً من قصص بطولاته ، وهي
تنبيك عَمَّا عداها

تبدأ هذه القِصَّةُ مُنْذُ الساعات الأولى لوفاة النبي الكريم والتحاقه بالرفيق
الأعلى ، حيث طفقت قبائل العَرَبِ تَخْرُجُ من دين الله أفواجاً ، كما دَخَلَتْ في
هذا الدين أفواجاً ، حتى لم يبق على الإسلام إلا أهل مكة والمدينة والطائف
وجماعات متفرقة هنا وهناك مِمَّن ثبت الله قلوبهم على الإيمان .
***
صمد الصديق رضوان الله عليه، لهذه الفتنة المدمرة العمياء ، صمود
الجبال الراسيات ، وجهز من المهاجرين والأنصار أَحَدَ عَشَرَ جَيْشاً ، وَعَقَدَ لِقَادَةِ
هذه الجيوش أحَدَ عَشَرَ لواء ، ودَفَع بهم في أرجاء جزيرة العرب ليُعيدوا
المرتدين إلى سبيل الهُدَى والحقِّ ، وليَحْمِلُوا المُنْحَرفين على الجادة بحد
السيف
وكان أقوى المُرتَدين بأساً ، وأكثرهم عدداً ، بنو حنيفة أصحاب مسيلمة
الكذاب
فقَدْ اجْتَمَعَ لمُسَيْلِمَةَ مِن قَوْمِهِ وحُلفائهم أربعون ألفاً من أشداء
المحاربين
وكان أكثر هؤلاء قد اتبعوه عَصَبيَّةً له ، لا إيماناً به ، فقد كان بعضهم
يقول :
أَشْهَدُ أنَّ مسيلمة كذاب ، ومحمداً صادق … لكن كذاب ربيعة أحبُّ
إلينا من صادِقِ مُضَر
***
هزم مسيلمة أول جيش خرج إليه من جيوش المسلمين بقيادة عكرمة بن
أبي جهل ورده على أعقابه
فأرسل له الصديق جيشاً ثانياً بقيادة خالد بن الوليد ، حَشَدَ فيه وجوه
الصحابة من الأنصار والمهاجرين ، وكان في طليعة هؤلاء وهؤلاء البراء بن مالك
الأنصاري ونَفَرٌ من كماة المسلمين
***
الْتَقَى الجَيْشَانِ على أرض اليَمَامَةِ في نجد ، فما هو إلا قليل ، حتى
رَجَحَتْ كَفَّةُ مُسَيْلِمَةَ وأصحابه ، وزُلْزِلَتِ الأَرْضُ تحت أقدام جنود المسلمين ،
وطفقوا يتراجعون عن مواقفهم ، حتى اقتحم أصحاب مسيلمة فُسْطَاطَ
خالد بن الوليد ، واقتلعوه من أصوله ، وكادوا يقتلون زوجته لولا أن أجارها واحد
منهم
عند ذلك شَعَرَ المسلمون بالخَطَرِ الدَّاهِم ، وأَدْرَكُوا أَنَّهُم إِنْ يُهْزَمُوا أمام
مسيلمة فلن تقوم للإسلام قائمة بعد اليوم ، ولن يُعْبَدَ الله وحده لا شريك له في
جزيرة العرب
وهب خالد إلى جيشه ، فأعاد تنظيمه ، حيث ميز المهاجرين عن
الأنصار ، وميز أبناء البوادي عن هؤلاء وهؤلاء .
وجمع أَبْنَاءَ كُلِّ أَن تَحْتَ راية واحدٍ منهم ، ليُعرف بلاءُ كل فريق في
المعركة ، وليُعْلَمَ من أَينَ يُؤْتَى المسلمون .
***
ودارت بين الفريقين رَحَى مَعْرَكَةٍ ضَروس لم تعرف حروب المسلمين
لها نظيراً من قبل ، وثَبَتَ قوم مسيلمة في ساحات الوعى ثبات الجبال الراسيات
ولم يأبهوا لِكَثْرَةِ ما أصابهم من القَتْلِ . وأبدى المسلمون من خوارق
البطولات ما لو جمع لكانَ مَلْحَمَةً من روائع الملاحم .
فهذا ثابت بن قيس حامل لواء الأنصار يتحنط ويتكفن ويحفر لنفسه
حُفْرَةً في الأرْضِ ، فينزل فيها إلى نصف ساقَيْهِ ، وَيَبْقَى ثابتاً فِي مَوْقِفه ، يجالد
عن راية قومه حتَّى خَرَّ صريعاً شهيداً .
وهذا زَيْدُ بنُ الخَطَّابِ أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ينادي في
المسلمين :
أيُّها النَّاسُ عضوا على أضراسكم ، واضْرِبوا في عَدِوِّكم وامضوا قُدماً .
أيُّهَا النَّاسُ ، والله لا أتكَلَّمُ بَعْدَ هذه الكلمة أبداً حَتَّى يُهْزَمَ مسيلمة أو الْقَى
الله ، فأدلي إليه بحجتي .
ثم كر على القوم فما زال يقاتِلُ حَتَّى قُتِلَ .
وهذا سالمٌ مَوْلَى أبي حُذَيْفَةَ يَحْمِلُ راية المهاجرين فيخشى عليه قومه أن
يَضْعُفَ أو يَتَزَعْزَعَ ، فقالوا له :
إنا لَنَخْشَى أَنْ تُؤْتَى من قِبَلِكَ ، فقال :
إن أتيتم من قبلي فَبِئْسَ حَامِلُ القرآن أكون .
ثم كر على أعداء الله كرَّةً باسِلَةٌ ، حَتَّى أصيب .
ولكن بطولات هؤلاء جميعاً تتضاءل أمام بطولة البراء بن مالك رضي الله
عنه وعنهم أجمعين .
ذلك أن خالداً حين رأى وطيس المَعْرَكَةِ يَحْمَى ويَشْتَدُّ ، التفتَ إلى
البراء بن مالك وقال : إليهم يا فتى الأنصار ….
فالتفت البراء إلى قَوْمِه وقال :
يا مَعْشَرَ الأنصار لا يُفَكِّرن أحد منكم بالرجوع إلى المدينة ؛ فلا مدينة
لَكُمْ بَعْدَ اليوم
وإنَّما هو الله وحده … ثم الجَنَّة
ثم حمل على المشركين وحملوا معه ، وانْبَرَى يَشُقُّ الصفوف ، ويُعْمِل
السيف في رقاب أَعْدَاءِ اللهِ حَتَّى زُلْزِلَتْ أقدامُ مُسيلمة وأصحابه ، فلجأوا إلى
الحديقة التي عُرِفَتْ في التاريخ بَعْدَ ذلك باسم حديقة الموت ؛ لِكَثْرَةِ من قُتِل
فيها في ذلك اليوم .
***
كانت حديقة الموت هذه رحْبَةَ الأرْجاءِ سامِقَةَ الجُدْرانِ ، فَأَغْلَقَ مسيلمة
والآلاف المُؤَلَّفَةُ من جُنْدِه عليهم أبوابها ، وَتَحَصَّنوا بعالي جدرانها ، وجَعَلُوا
يمطرون المسلمين بنبالهم من داخلها فَتَتَسَاقَطُ عَليهِم تَسَاقُطَ المَطَر .
عند ذلك تَقَدَّمَ مِغوار المسلمين الباسل البراء بن مالك وقال :
يا قوم ، ضعوني على ترس ، وارفعوا التَّرْس على الرماح ، ثم اقْذِفُوني
إلى الحديقة قريباً من بابها ، فإمَّا أَنْ أَسْتَشْهَدَ ، وَإِما أَنْ أَفْتَحَ لَكُمُ البَابَ .
***
وفي لمح البَصَرِ جَلَسَ البراء بن مالك على ترس ، فقد كان ضئيل الجسم
نَحِيلَه ، وَرَفَعَتْهُ عَشَراتُ الرِّماحِ فَأَلْقَتْهُ في حديقة المَوْتِ بَيْنَ الآلافِ المُؤَلَّفَةِ من
جُنْدِ مُسَيْلمَةً ، فنزل عليهم نزول الصَّاعِقَةِ ، وما زال يُجالِدُهُمْ أمام باب
الحديقة ، ويُعْمِلُ في رقابهم السيفَ حَتَّى قَتَلَ عَشَرَةً منهم وفتح الباب ، وبه
بضع وثمانون جراحة من بَيْنِ رَمية بسهم أو ضربة بسيف …. فتدفق
المسلمون على حديقة الموت ، من حيطانها وأبوابها وأعملوا السيوف في رقاب
المرتدين اللائذين بجدرانها ، حتى قتلوا مِنْهُم قريباً من عشرين ألفاً ووصلوا
إِلَى مُسَيْلِمَةَ فَأَرْدَوْه صريعاً .
***
حمل البراء بن مالك إلى رَحْلِهِ ليُداوى فيه ، وأقام عليه خالد بن الوليد
شهراً يعالجه من جراحه حتَّى أَذِنَ اللهُ له بالشفاء ، وكتب لجند المسلمين على
يديه النصر .
***
ظل البراء بن مالك الأَنْصَارِيُّ يَتُوقُ إلى الشهادة التي فاتته يوم حديقة
الموت …
وطفق يخوض المعارك واحِدَةً بعد أُخْرَى شوقاً إلى تحقيق أمنيته الكبرى
وحنيناً إلى اللحاق بنبيه الكريم ، حتَّى كان يوم فتح « تستر » من بلاد
فارس ، فقد تحصن الفرسُ في إحدى القلاع المُمَرَّدَةِ ، فَحَاصَرَهُمُ
المسلمون وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم ، فلما طال الحصار واشتدَّ
البلاء على الفرس ، جعلوا يُدَلُّون من فَوْقِ أسْوارِ القَلْعَةِ سَلاسِلَ من حديد ،
علقت بها كلاليب من فولاذ حُمِّيَتْ بالنَّارِ حَتَّى غَدَتْ أَشَدَّ تَوَهَّجاً من الجَمْرِ
فكانت تنشب في أجساد المسلمين وتَعْلَقُ بها ، فيرفعونهم إليهم إما موتى وإِمَّا
على وشك الموت .
فَعَلِقَ كلاب منها بأنس بن مالك أخي البراء بن مالك ، فما إن رآه البراء
حتَّى وَثَبَ على جدار الحِصْنِ ، وأَمْسَكَ بِالسِّلْسِلَةِ التي تَحْمِل أخاه ، وَجَعَل
يُعالج الكلابَ لِيُخْرِجَه من جَسَدِه فَأَخَذَتْ يَده تحترق وتدخن ، فلم يأبه لها حتَّى
أنقذ أخاه ، وهَبَطَ إلى الأرض بعد أن غَدَتْ يَدُهُ عظاماً ليس عليها لحم .
وفي هذه المعركة دعا البراء بن مالك الأنصاري الله أن يَرْزُقه الشهادة ؛
فأجاب الله دعاءه ، حيث خر صريعاً شهيداً مُغتبطاً بلقاء الله .
***
نصر الله وَجْهَ البراء بن مالك في الجنَّةِ ، وأقر عينه بِصَحْبَةِ نبيه محمد عليه
الصَّلاة والسلام ، ورضي عنه وأرضاه .
من كتاب صور من حياة الصحابة

