ميلاد في البصرة
في سنة 965م، كانت مدينة البصرة عامرة بالأسواق والموانئ، ملتقى للتجار والكتب والأفكار. في هذه البيئة وُلد الحسن بن الحسن بن الهيثم.
نشأ في أسرة متوسطة، لم تُسجَّل عنها تفاصيل كثيرة، لكن المؤكد أن الجو العلمي في البصرة فتح له أبوابًا مبكرة للعلم والمعرفة. كان محبًا للرياضيات والقراءة منذ صغره، ميّالًا إلى التفكير في الطبيعة وظواهرها.

من الفقه إلى الرياضيات
بدأ ابن الهيثم بدراسة العلوم الشرعية ككثير من أبناء عصره، لكنه سرعان ما انجذب إلى علوم أخرى: الهندسة، الفلك، والرياضيات.
كانت البصرة مركزًا فكريًا متنوعًا، حيث يتداخل الكلام الفلسفي مع الحساب والفلك. هذه البيئة غذّت عقله، لكنه لم يقف عند حدود التلقّي، بل كان يسعى دومًا لفهم العالم بطريقة عملية.
بغداد وأحلام النيل
انتقل ابن الهيثم إلى بغداد، التي كانت آنذاك عاصمة الخلافة العباسية، ومجمع العلماء والمترجمين. هناك توسّع في علوم الهندسة والطب والفلك.
لكن شهرته الحقيقية بدأت عندما طرح فكرة طموحة: الاستفادة من فيضان النيل عبر مشروع هندسي ضخم، لتنظيم جريانه ومنع أضراره. وصلت الفكرة إلى مسامع الحاكم الفاطمي بأمر الله في القاهرة، فاستدعاه لتنفيذها.
مشروع يفوق عصره
حين وصل ابن الهيثم إلى مصر، عاين النيل وأرضه. تخيّل إمكانية بناء سدود وخزانات تتحكم في تدفقه، مشروع شبيه بما لم يعرفه العالم إلا بعد قرون طويلة.
لكن بعد دراسات ميدانية أدرك أن إمكانات عصره لا تسمح بتحقيق ما يطمح إليه. لم يكن أمامه إلا أن يتراجع. تراجعه هذا لم يرضِ الحاكم، فانتهى به المطاف إلى العزلة والحبس في بيته بالقاهرة.
الحبس… مختبر مفتوح
لم تكن سنوات الحبس ضياعًا، بل صارت أعظم فرصة في حياته.
تحوّل البيت الصغير إلى مختبر، والغرفة المظلمة إلى نافذة نحو أسرار الضوء.
في عزلته لاحظ ظاهرة أساسية: عندما يمر الضوء من ثقب ضيق إلى غرفة مظلمة، يرسم صورة معكوسة للعالم الخارجي على الجدار المقابل.
بهذه الملاحظة البسيطة، وضع الأساس لما صار يُعرف لاحقًا بالكاميرا المظلمة (Camera Obscura)، وأثبت أن الرؤية تحدث بدخول الضوء إلى العين، لا بخروجه منها كما اعتقد الإغريق.
كتاب المناظر
خلاصة سنواته في البحث ظهرت في مؤلفه الأشهر: “المناظر”.
هذا الكتاب المؤلف من سبعة مجلدات وضع قواعد علم البصريات التجريبي:
شرح كيفية انتقال الضوء.
فسّر الانعكاس والانكسار.
تناول تركيب العين البشرية.
ربط بين الرياضيات والفيزياء لفهم الظواهر.
لم يكتفِ ابن الهيثم بالتنظير، بل اعتمد منهجًا تجريبيًا واضحًا: الملاحظة، الفرضية، التجربة، التكرار. وهو المنهج الذي سيُبنى عليه العلم الحديث فيما بعد.
إرث يتجاوز العصور
توفي ابن الهيثم في القاهرة عام 1040م، بعد حياة حافلة بالعلم والتأليف. ترك ما يزيد على 200 كتاب في البصريات، الرياضيات، الفلك، والفلسفة.
بعد وفاته، عبرت مؤلفاته البحر إلى الأندلس، ثم تُرجمت إلى اللاتينية في أوروبا، حيث عُرف باسم Alhazen.
أعماله أثّرت في كبار العلماء مثل كبلر وغاليليو ودافنشي. بل إن اختراع الكاميرا والنظارات والمجهر ارتبط بشكل مباشر بملاحظاته وأفكاره.
الدرس الخالد
كان ابن الهيثم أكثر من مجرد عالم بصريات. كان رائدًا في المنهج التجريبي.
علّم العالم أن المعرفة لا تقوم على الجدل الفلسفي وحده، بل على التجربة والملاحظة الدقيقة.
في زمن كان كثيرون يخلطون بين الفلسفة والعلم، جاء ليقول:
“ابدأ بالشك، ثم جرّب، ثم تأكد.”
الخاتمة
من البصرة إلى القاهرة، ومن النيل إلى مكتبات أوروبا، شق ابن الهيثم طريقه من الظل إلى النور.
كان الرجل الذي جعل الضوء علمًا، والرؤية تجربة، والعقل أداة للتحقق.
ترك الدنيا جسدًا، لكنه بقي إرثًا، يُذكّرنا أن أعظم ثورات المعرفة تبدأ أحيانًا من غرفة مظلمة، ومن عقل لم يرضَ أن يكتفي بالجدل.
✨ هكذا عاش ابن الهيثم، وهكذا بقي: سادن النور، ورائد التجربة، وأب البصريات الحديثة.

