الميلاد في دمشق
في عام 1213م، وُلد طفل في دمشق حمل اسم علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي، لكن التاريخ عرفه بلقبه الشهير: ابن النفيس.
في مدينةٍ شامية نابضة بالعلم، حيث المدارس والمكتبات، نشأ الفتى محاطًا بجوّ من العلماء. منذ صغره، أحبّ القراءة، لكن شغفه الأكبر كان بالجسد: كيف يعمل؟ ولماذا يمرض؟

من تلميذ إلى طبيب بارع
تتلمذ ابن النفيس في البيمارستان النوري بدمشق، حيث تلقى علوم الطب على أيدي كبار الأطباء. هناك بدأ يراقب المرضى ويقارن بين ما قرأه في كتب ابن سينا وجالينوس، وبين ما يراه على أرض الواقع.
لم يكن يقبل الأفكار كما هي، بل كان يُدقق ويسأل:
“هل يمرّ الدم فعلًا عبر ثقب في جدار القلب كما قال جالينوس؟”
“لماذا لا أجد أثرًا لهذا الثقب حين أفحص تشريح القلب؟”
الرحلة إلى القاهرة
انتقل ابن النفيس إلى القاهرة، ليعمل في البيمارستان الناصري ثم البيمارستان المنصوري. هناك أصبح رئيس الأطباء، وبدأت شهرته تتسع.
كان يعالج المرضى نهارًا، ويكتب ليلاً، محاطًا بالكتب والأدوات. القاهرة، في زمنه، كانت مركزًا للعلم، وهو استغل ذلك ليترك أثرًا خالدًا.
الاكتشاف الأعظم… الدورة الدموية الصغرى
بينما كان يدرس تشريح القلب والرئتين، توصّل ابن النفيس إلى اكتشاف قلب التاريخ:
الدم لا يعبر من البطين الأيمن إلى البطين الأيسر عبر ثقب في الحاجز.
بل يذهب من البطين الأيمن إلى الرئة عبر الشريان الرئوي، حيث يختلط بالهواء.
ثم يعود إلى البطين الأيسر عبر الأوردة الرئوية.
بهذا قدّم أوّل وصف دقيق لما نسمّيه اليوم الدورة الدموية الصغرى—قبل وليام هارفي الأوروبي بثلاثة قرون.
كتب يقول:
“الدم لا يمرّ في القلب من بطين إلى بطين، وإنما يذهب من البطين الأيمن إلى الرئة، فيمتزج هناك بالهواء، ثم يعود إلى البطين الأيسر.”
الطبيب الموسوعي
ابن النفيس لم يكن فقط مكتشف الدورة الدموية:
ألّف “شرح تشريح القانون”، أضخم موسوعة طبية في عصره.
كتب في الفلسفة والمنطق والحديث.
دوّن موسوعة ضخمة بعنوان “الشامل في الصناعة الطبية”، لم يكتمل منها سوى أجزاء، لكنها كانت مشروعًا طموحًا لم يسبقه إليه أحد.
الجرأة على مخالفة الكبار
كان عصره يمجّد آراء جالينوس وابن سينا، لكن ابن النفيس لم يخشَ أن يقول: “أخطأوا هنا.”
كانت جرأته العلمية سببًا في بطء انتشار أفكاره، لكن الزمن أنصفه. فحين اكتشف الأوروبيون الدورة الدموية في القرن السابع عشر، وجدوا أن ابن النفيس سبقهم بثلاثة قرون كاملة.
صورة من حياته اليومية
تخيّل مجلسه في القاهرة:
طاولة فوقها مخطوطات مفتوحة، أدوات تشريح، وريش يخطّ به على الرق. يدخل أحد طلابه ليسأله عن مرضٍ غامض، فيبتسم الطبيب ويقول:
“لا تقبلوا كل ما تقرأون… انظروا بأعينكم، جرّبوا بأيديكم، ثم احكموا بعقولكم.”
أخلاق الطبيب
لم يكن ابن النفيس عالمًا فقط، بل كان معروفًا بورعه وزهده. عاش حياة متواضعة، وعند وفاته عام 1288م، أوصى أن تُصرف كل تركته للبيمارستان المنصوري لعلاج المرضى الفقراء.
الإرث الذي لا يموت
اليوم، يُذكر ابن النفيس في العالم كله بصفته مكتشف الدورة الدموية الصغرى. لكنه أيضًا رمزٌ للعالم الذي لا يخشى مخالفة الموروث حين يرى الحقيقة.
ترك لنا دروسًا خالدة:
أن العلم لا يتوقف عند التقليد.
أن التجربة والملاحظة هما الطريق إلى الحقيقة.
أن الطبيب الحقّ هو من يجمع بين العلم والرحمة.
النهاية… قلبٌ يضخّ المعرفة
رحل ابن النفيس عن الدنيا، لكن قلبه ما زال يضخّ دماء العلم. كل نبضة في قلب إنسان اليوم تحمل أثره؛ لأنه أول من فهم كيف يسري الدم في الجسد، وكيف يمنحنا الحياة.

